لا أثق بسيارة لا تعبّر عن نفسها، ولا أحب مقوداً لا يقاوم يدي، ولا أحتمل مركبة لا تخطئ الطريق. ولكن في كوكب يحترّ وعالم يختنق، ربما يكون التعلق بهدير المحركات ضرباً من الأنانية غير المسؤولة.
عشرون عاماً من قيادة سيارات حقيقية مفتولة العضلات، قلوبها سداسية وثُمانية الأسطوانات، ها أنا اليوم أقف أمام معرض للسيارات الكهربائية، كصيّاد شغوف أمام حوض أسماك ملونة.
يقول لي صديقي سمير: “المستقبل وصل أخيراً يا إدوارد. انتهى عصر الوقود الأحفوري. لقد حكم علينا التقدم أن نهجر هدير المحركات، كما هجرنا وهج مدفأة الحطب والمازوت، من أجل أنابيب التدفئة المركزية الخفية”.
أجبته، وعيناي تزدرئان سيارة تسلا أمامي متبلدة المشاعر كرئيسها: “ولكن ألا تشعر أن شيئاً ما مفقود؟ أين الشخصية؟ أين الهوية؟! أيُعقل ألا يكون للأذن دور في تحديد ما إذا كانت السيارة شغالة أم مطفية؟ سيارة تحتاج أن تنظر إليها لتعرف إن كانت حية أو ميتة؟! أي صفاقة ميكانيكية هذه؟!”
أُشير إلى الشاشة العملاقة وسط المقصورة: “يسمونها ‘ذكية’، لكنني أراها غبية ومستفزة! لتعديل المكيف، عليك أن تترك الطريق وتتصفح قوائم هاتف بحجم تلفاز”.
يجيب سمير متهكماً: “هكذا صار التقدم: شاشات ضخمة لا تستجيب إلا بعد ثلاث محاولات. يلغون الأزرار ويتذرعون بالتصميم النظيف ‘الميناميليزيم’ يا صاحبي”!
الحقيقة المرة
في عالم يختنق، ربما يصبح التعلق بهدير المحركات أنانية غير مسؤولة. أعترف بذلك 🙁
يحق للعاشق أن يبوح ويثور ويعترض، لكن الحقائق لا يمكن نكرانها. فالمحركات التقليدية تطلق سنوياً مليارات الأطنان من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. سيارتي ذات الصوت الشجي تشارك في جريمة تغير المناخ. لا أحب ذلك. أقر بذلك.
- النقل مسؤول عن نحو 24% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالميًا (وكالة الطاقة الدولية، 2023).
- السيارات الكهربائية تخفض الانبعاثات، وتقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
- بعد أقل من عامين من الاستخدام، تصبح السيارات الكهربائية أنظف بيئيًا من سيارات البنزين (جامعة أكسفورد، 2020).
ولكن، هل الصورة وردية حقًا؟
أقول لسمير: “ولكن ليست كل الكهرباء خضراء، أليس كذلك؟ في بلد يعتمد على الفحم، أنت لا تحل المشكلة، أنت فقط تنقلها.
وقصة البطاريات أيضاً معقدة، فالتعدين يستهلك طاقة ومياه هائلة. وإعادة التدوير ما زالت تحتاج تطويراً. “
يوافقني سمير: “معارضو السيارات الكهربائية لديهم بعض الحق أيضاً. فتصنيع البطاريات يتطلب كميات ضخمة من الليثيوم والكوبالت، يتم استخراجها غالبًا في ظروف ترتبط بانتهاكات بيئية وحقوق إنسانية. ومصادر الكهرباء لا تزال، في كثير من البلدان، تعتمد على الفحم والنفط. وتكلفة تصنيع السيارة الكهربائية، خصوصًا البطارية، تترك بصمة كربونية ثقيلة قبل أن تتحرك السيارة متراً واحدًا.
بالتأكيد، ليست كل سيارة كهربائية طوق نجاة أخضر كما تصوّره لنا الحملات الإعلانية”.
دعونا نتجاوز الضجيج ونضع النقاط على الحروف
- رغم ارتباط السيارات الكهربائية بمصدر الطاقة، فبصمتها الكربونية تظل أخف من التقليدية حتى في البلدان التي تستخدم الفحم والنفط لتوليد كهربائها، وفق دراسات الاتحاد الدولي للنقل النظيف.
- في النرويج، حيث الطاقة الكهرومائية تبلغ 98%، تتفوق السيارات الكهربائية بيئياً بمراحل على نظيرتها التقليدية.
- صحيح أن تعدين الليثيوم والكوبالت يشكل تحدياً، لكنه يبقى أقل ضرراً من صناعة النفط، كما أكدت مجلة نيتشر الشهيرة.
- أما مزاعم استهلاك “ألف منزل” للطاقة، فهراء محض. شحن “تسلا موديل 3” يعادل تشغيل مكيف لساعات قليلة لا أكثر.
- والحقائق تدحض مخاوف الحرائق: فرص اشتعال السيارات الكهربائية أقل بنسبة 60% مقارنة بالسيارات التقليدية.
- تتميز السيارات الكهربائية بعزم دوران فوري منذ لحظة الانطلاق، وتكلفة استخدامها أقل بمعدل النصف تقريباً.
- أما الشاشات الذكية فظاهرة تعم صناعة السيارات كلها، وليس فقط الكهربائية منها.
أين الروح؟
نقف أمام سيارة رياضية كهربائية تتسارع في ثلاث ثوان. يقول سمير: “عزم الدوران الفوري شيء مذهل يا رجل”!
أتنهّد: “لكن أين صوت المحرك الذي يتناغم مع دقات قلبي؟ أين الإبداع الميكانيكي؟ أين روح الفريق بين الأسطوانات والصمامات والمسننات؟ هل أنا الوحيد الذي يرى هذه الميزة عيباً؟ التدرج سنة من سنن الحياة في نظري”. أصمت، وأتمتم مقهوراً: “ما ناقص غير يحطو أزرار low و medium و high بالقرب من زر تشغيل السيارة أسوةً بأخواتها من الخلاطات ومجففات الشعر”.
العقل يقول نعم. القلب يصرخ لا.
ربما سأشتري يوماً سيارة كهربائية. لكنني سأُبقي سيارتي القديمة في المرآب أو ربما أضطر إلى إخفائها في سرداب، لأسمع هديرها من حين لآخر، كعاشق يحتفظ بصورة حبيبته الأولى.
ترنّح بين العاطفة والمنطق
يبشرون بمستقبل كهربائي صامت، بلا دخان ولا ضجيج. كم تليق بهم هذه البرودة! وفي مقدمتهم ذاك الرجل!
أعترف بواقع الأمر. التحول الكهربائي لم يعد خياراً، بل ضرورة تمليها كوارث المناخ وتسارع الأزمات.
ومع ذلك، قلبي يرفض أن يخضع.
ليت الأمر بسيطاً كما هو للغالبية. المقارنة بين السيارات الكهربائية والتقليدية أشبه عندي بالمقارنة بين شعر نثري هزيل مخلخل وشعر رصين مقفى وموزون.
لستُ ضد التقدم أو التأقلم. ولكني عاشق يرفض التخلي عن حبيبته، حتى لو نبذها الجميع.
لا أريد سيارة تسير بي صامتة كنعش فاخر. أريد أن أشعر بانفجار كل اسطوانة، وتعشيق كل مسنن. لا أثق بسيارة لا تعبّر عن نفسها، ولا أحب مقوداً لا يقاوم يدي، ولا أطيق مركبة لا تخطئ الطريق.
بعد عودتي، جلست في شرفة منزلي أحدّث نفسي: “والله ما اقتنعت ولا شكلي رح اقتنع بفكرة اقتناء سيارة كهربائية”. صحيح أن ضميري يؤنبني كلما شغلت سيارتي، ولكن في داخلي رجاء خفي بأن تتفتق عبقرية أحدهم عن ابتكار ميكانيكي تكنولوجي ما تغدو بفضله محركات الاحتراق الداخلي صديقة للبيئة. فذلك رغم صعوبته أسهل من أن أصبح أنا صديقاً للسيارات الكهربائية!
حتى ذلك الحين، تستمر حيرتي: ماذا أفعل؟ ومين سمير؟!