تحدّث الروائي والقاص الكبير محمد محمد مستجاب عن أبيه في ذكرى رحيله العشرين والذي غيّبه الموت في مثل هذا اليوم من العام 2005.
محمد محمد مستجاب
كتب مستجاب يقول:”في مثل هذا اليوم رحلت يا أبي، رحلت دون أن تضغط على يدي، وتقدم لي هدية ونصيحة وابتسامة، رحلت، رغم أنني لم استطع أن ادخل عليك غرفة الإنعاش، ولم استطع أن أراك مكبّلاً بالخراطيم والأنابيب والأجهزة الطبية، اتذكر ابتسامتك وأنت على فراش المستشفى، ابتسمت لي فقط، رغم الرباط الطبي الذي كان على فمك، ابتسمت لي، وأنا أعلم أن بعد عدة أيام ستغادر المستشفى ونعود للبيت تلك الابتسامة الشفيفة المكبلة بتوجيهات الأطباء وأنابيب المستشفى، ورغم بكاء أمي المرير بجواري وهي تخبرني فور خروجنا من الغرفة بأن أبوك بيموت يا محمد، ورغم صراخي الشديد فيها حينها، بأن هذا لن يحدث، وبأنه سوف يعود معنا للبيت قريبًا، إلاّ أن ابتسامتك هذه لا تفارقني أبدًا، كلما تكالبت علىّ المشكلات وحاصرني الجهال وتكاثرت علي طلبات الحياة، ابتسم، وأنا أعلم بأنك تشعر بي، وتعلم ما أمر به، لكنك تتركني للتجربة.
ويضيف:”ابتسم وأنا اتذكر ضيقك مني يوم أن غادرنا البيت للمستشفى، وغضبك الشديد مني، لآنك نسيت معي بخاخة صدرك “الفنتال” وقد داهمتك الكحة الشديدة حينها، ورغم ذلك اعطيتني بعض النقود، وطلبت مني؛ لأني تعبت – أن اذهب وأستريح في الفراش المجاور لفراشك.
ذكرى رحيل محمد مستجاب
ويكمل: “أتذكر دائمًا تلك اللحظات الأخيرة معك، كلما هممت بعمل شيء لابنتي يسر، وأنا أقوم بوضع الملابس عليها أو وأنا أقوم بربط رباط الحذاء لها، أو وهي تمسك يدي ونحن نهبط السلم أو نعبر الشارع، فرغم اعتراضها الدائم ورغم حركتها المستمرة، إلا أنني اتذكر كيف تكون أب، قلقي الشديد وهى مريضة أثناء شهر رمضان الماضي، الرعب الذي لثم قلبي وقلب أمها ونحن نراها جسدًا هامدًا لا تستطيع الأكل أو الجلوس، ولا تستطيع أن تلعب وتتقافز حولنا، قلقي وهم يأخذون من يدها قطرات من الدماء للتحليل، كل ذلك كان يتم وانت تقف بجواري، تربت على كتفي، واحيانًا تقدم لي سيجارة وتأمرني أن اذهب لتدخينها بعيدًا كما اعتدت، لذا كنت أدعوا لها بالشفاء وبأنني سوف أخذها معي ونقوم بزيارتك قريبا، رغم أنك لم تراها، إلا انها دائمًا تردد اسمك، ” جدو مستجاب” قاعد في الصورة” جدو مستجاب لابس نضارة” ورغم عدم فهمها كمية الصور الكثيرة على الجدران أو على جهاز الاب توب، إلا أنها تشعر دائمًا معي بوجودك.
يستطرد: “أمس فقط، نظرت لها، وكان ضوء القمر يغرق الشرفة، فأخبرتني أن جدو مستجاب أهو، كانت تشير على أحد الرجال يسير وهو يرتدي جلباب، ورغم بعد المسافة، إلاّ انني استدرت في اتجاه ذراعها القصير، فوجدتك، تسير في جلبابك الفضفاض، وقد اشتعلت سيجارة، كنت تسير أسفل الاشجار، ضحكت وقلت لها ليس هو بل رجلا يشبهه، إلا انها اصرت أن هذا جدو مستجاب، ثم أشارت للقمر، وقالت: حتى أسأل القمر قبل ما يروح ينام.
ويواصل:”أعدت نظراتي اتجاه الرجل الذي كان قد ابتعد كثيرًا، وقلت لها ربما يكون هو، وسوف نقوم بزيارته مع جدتك يوم الجمعة.. قالت هل أخذ معي الدراجة، قلت لها سيسعد بها جدا، ثم اخبرتني أنها ستقوم برن جرس الدراجة كي يعرف أننا قادمين.. وأن الشمس ستكون قد استيقظت كي ترافقنا في رحلتنا لزيارة جدو مستجاب.
قيام وانهيار آل مستجاب
وتابع “تركتني يسر في الشرفة بمفردي، أطل على القمر، وعلى طيف الرجل الذي رحل، اعلم أنك حولي وأنك تريد أن تهون علي ما يحدث حولي، وتريد مني أن اكتب واستمتع بالكتابة، وأن اعيش الحياة كما عشتها انت، راضيًا ومبتسمًا، وإلا أكون ضحية لأحد.
وظلت ” يسر” ترن جرس الدرّاجة، وهي تنادي علي أن ادخل من الشُّرفة، واقوم بدفع العجلة وهي تقودها، ابتسمت لها وأخبرتها أن جدو مستجاب سيقدم لها حاجة حلوة، قالت: عايزة بيتزا، قلت لها هاجيبلك كل حاجة.
ويكمل “لم أكن اكذب على يسر فمنذ فترة بسيطة، وجدت شخص يتصل بي، لطباعة أحد أعمال مستجاب، وقدم مبلغ جميل للأسرة الكبيرة، سعدت جدًا، ليس لطباعة الكتابة، وليس لتذكر أحد مستجاب، الذي اسعدني ان رسالة مستجاب تصل في هذا التوقيت، رسالة تأتي وتقدم لك بهجة كنت تبحث عنها وسط حرارة الجو، وهذه القدرة التي يغلف بها حياتي، بل والتحذيرات الكثيرة التي يرسلها لي، ورغم حثّه الدائم أن أكتب، وألا أشغل بالي بما يقولون، وأن أفرح بالكتابة مثلما كان يفرح بالكتابة.
يواصل مستجاب الابن حديثه: “أبدو الآن مرتبكًا وأنا أراك تتحرك حولي في البيت، وتجعلني اقرأ بعض الرسالات لم ترسلها للأصدقاء، أحد الرسالات ممتلئة بالحياة والحب والنصائح والمكر والبهجة، وكأن هذه رسالات كتب لي أنا أسمع صوتك على الورق، واسمع ضحكتك، وطريقة كلامك وانا اقرأ تلك الرسالات، وكأنك لم تغادر، ولم ترحل، وكيف لنهاية أحد الرسالات وكانت للشاعر علي عبيد شاعر طنطا، وانت تتحدث معه، وتؤنبه، ثم تخبره بأنك تنتظره، ولانه كان يريد أن يعتزل الكتابة، فتخبره في ختام رسالتك بتلك الكلمات:
“كل هذا سببه فكرة الاعتزال، وهي فكرة تساوي بالنسبة للفنان ما يساويه بالنسبة للرجل أن يصبح خصيًا فاقد الرجولة، اكتب واكتب وانشر أو لا تنشر، فسيظل الفن فرحًا حقيقيًا قد يزداد اشعاعًأ بالنشر، لكنه ليس النشر هو الفن في جميع الأحوال”.
ويختتم مستجاب الأب حديثه عن صاحب نبش الغراب: “بالطبع تعلم أن هذه الرسالة تصحابني منذ اكثر من شهر، أحاول ان أفك شفراتها أو ان انفذ توصياتك بها، الاستمتاع بصدي كلماتك فيها، حتي وانا أقراها منذ أيام لزوجتي، فضحكت، وأنا اخبرها، حتي في رسائله صوته واضحًا وصريحًا، اخبرها هذا لانها أيضًا لم تلتقي بك، ولم تقابلك، لكنها تعلم انك كنت ستحبها، وتدافع عنها ضدي، مثلما كنت تفعل مع اختي الصغري، ومثلما كنت تدافع عن امي وتقف ضدي، إلا أنك الان تراقبني تلك المراقبة المرواغة الممتلئة بالاطياف والشفرات، وأنا أحاول ان ابدو ابن طيب وأب حنون امام ابنتي التي تسألني الان عندما استيقظت، بأن الشمس صحيت، وبأنها تريد أن تذهب للحضانة، وأنها لم تنسي أن تقوم برن جرس دراجتها حتي تستعد لاستقبالنا بعد أيام قليلة